إن الأمن الغذائي قضية دائمة الوجود وقد ازدادت تهديداتها بشكل متزايد خلال السنوات الأربعة الأخيرة. حيث أدت جائحة كورونا إلى تفاقم تحديات الأمن الغذائي العالمي. وتواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على وجه الخصوص ارتفاعا غير مسبوق في الأسعار ، وتعطلت سلاسل التوريد بسبب الصراع الروسي الأوكراني والأخيرة عند انتهاء اتفاقية الحبوب الروسي الاوكراني في يوليو 2023م (Alarabiya, 2023)، والتي تعد أحد تبعاته إرتفاع أسعار الحبوب والأسمدة بشكل ملحوظ. وفي نفس الشهر، حظرت الهند تصدير الأرز، الأمر الذي أثار المخاوف من المزيد من التضخم في أسواق الغذاء العالمية في بلدان آسيا وأفريقيا (Jadhav, et al., 2023). كما تضع أنماط الطقس غير المنتظمة الناجمة عن تغير المناخ ضغوطا على قطاع الزراعة في الدول الزراعية، مما يتسبب في خسائر المحاصيل وانخفاض الانتاج. بالإضافة إلى ذلك، يعاني ما يقرب من 51 مليون شخص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الجوع، وبلغت نسبة الذين يعانون من سوء التغذية من الأطفال دون سن الخامسة في دول شرق أفريقيا بين 26 و 38 في المائة (FAO, et al., 2020). تشكل هذه القضايا تحديات متعدد الأوجه لصانعي السياسات وأصحاب المصلحة، مما يدعو إلى الحاجة لحلول مبتكرة وريادية لزيادة الإنتاج الزراعي ورفع مستوى الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما يحتاج العالم إلى معرفة كيفية التكيف مع حقائق تغير المناخ في ضوء أزمة النظام الغذائي الحالية، والأهم من ذلك، كيفية التكيف مع إنتاج المزيد من الغذاء بشكل أكثر كفاءة.
وفقا لتقرير حديث للبنك الدولي حول الأمن الغذائي وآثار تضخم الأسعار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (Roberta, et al., 2023)، ارتفع التضخم بسرعة في عام 2022م، لا سيما في البلدان التي عانت من انخفاض قيمة العملة. ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن أحد أهم المشاكل الرئيسية التي تواجهها المنطقة هو نقص البيانات عند محاولة تحليل أوضاع الأمن الغذائي وتصميم السياسات. أيضا، أن المنطقة تفتقر إلى أنظمة الإنذار المبكر للأوقات الصعبة وأن معظم حسابات مؤشر أسعار المستهلك تستند إلى إحصائيات قديمة. لذلك، فإن جمع البيانات ومشاركتها حاجة بالغة الأهمية لمعالجة القضايا المتعلقة بانعدام الأمن الغذائي مثل تضخم أسعار الغذاء ونقص الإمدادات وخسائر المحاصيل. ولكن كيف يمكن أن يكون التنسيق المحلي وتبني التكنولوجيا المتطورة ممكنا بالنظر إلى أن بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لديها موارد وخبرات أقل بكثير من غيرها؟
ومن هذا المنطلق، فإن هناك قصة مختلفة تدور في عالم ريادة الأعمال والابتكار عن عالم السياسة. حيث تحاول الشركات التكنولوجية الزراعية ابتكار أنواعاً مختلفة من النظم والتقنيات لمعالجة المخاوف المتعلقة بخسارة المحاصيل وزيادة الإنتاج بفعالية أكبر ووقت أقل. فقد غيرت التكنولوجيا الزراعية الحديثة تماما طريقة العمل الزراعي، وأصبحت هناك مجموعة متنوعة من الحلول المبتكرة التي تعمل على تحسين العمليات المتعلقة بالإنتاج والكفاءة والسلامة. هذه التطورات التقنية، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، الزراعة الدقيقة، والأتمتة، وعلم الوراثة، والتكنولوجيا الحيوية، وإدارة الموارد. جميع هذه التطورات جعلت من الممكن الانخراط في أساليب زراعية أكثر كفاءة وذكاء وصديقة للبيئة.
تعزيز قاعدة البيانات
يعاني ملايين المزارعين حول العالم من التحديات التي تفرضها عليهم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ومن التحديات التي يعانيها هؤلاء المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة، على عكس الشركات الزراعية الكبيرة، هي عدم استطاعتهم – الوصول إلى التدريب ونقص في الموارد الزراعية كالأسمدة والبذور والأدوات الأخرى بالاضافة إلى عدم إمكانية الوصول الدعم المالي – لتحسين إنتاجية المحاصيل وجودتها وزيادة الأرباح الناتجة عن بيعها (Savoy, 2022). وهذا يراكم العوائق والتحديات خصوصاً إذا كان المزارعين يعتمدون بشكل كلي على الزراعة لكسب قوت عيشهم. حيث قدر ت دراسة أن هناك حوالي 608 مليون أسرة من أصحاب الحيازات الصغيرة في العالم (Lowder, et al., 2021) الذين ينتجون حوالي 35 بالمائة من الغذاء حول العالم و80 بالمائة من الغذاء في أفريقيا وآسيا (FAO, 2021) والذين يشكلون نسبة كبيرة ممن تأثروا من جائحة كورونا والتضخم في الأسعار. وتركز خطة العمل العالمية لعقد الأمم المتحدة للزراعة الأسرية 2019 – 2028 على تطوير السياسات العامة وتركيز الاستثمارات لدعم الزراعة الأسرية من منظور شامل، وإطلاق العنان للإمكانات التحويلية للأسر المزارعين للمساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 (FAO & , 2019). وتركز الركيزة الأولى من خطة العمل على تهيئة سياسات تمكينية لتعزيز الزراعة الأسرية، وهو ما لا يمكن تحقيقه ما لم يتم جمع البيانات اللازمة لفهم تحديات المزارعين والشركات الزراعية لصنع السياسات التي تمكن من تعزيز هذا القطاع الحيوي.
وللوصول إلى الأهداف المتعلقة بتحسين الإنتاجية والجودة بكفاءة أكبر، يجب تمكين المزارعين من أن يكونوا قادرين على استخدام النظم الحديثة لتحسين عملياتهم الزراعية; وهذه النظم تدور حول استخدام “البيانات.” ففي الوقت الحاضر، تعتمد الزراعة الحديثة على جمع بيانات دقيقة عن ظروف التربة وصحة المحاصيل وأنماط الطقس باستخدام البيانات المتاحة وتقنيات أخرى مثل أجهزة الاستشعار والطائرات بدون طيار وصور الأقمار الصناعية ونتائج التحاليل المختبر وغيرها من التقنيات المتطورة التي تمكّن المزارعين من فهم المحاصيل والمشكلات التي قد تطرأ عليها. فباستخدام كميات هائلة من البيانات، يمكنهم اتخاذ قرارات عديدة بشأن العمليات الزراعية مثل تحسين الري وحسن إدارة الموارد وتقليل الأضرار البيئية على المحاصيل. ومن الجدير بالذكر أن الذين يعملون في المهن الزراعية في المناطق الريفية وخصوصا في أعمال الزراعة والحراثة والحصاد يكونون أكثر إجهادا جسديا ويستهلك العمل الزراعي وقتهم بالكامل، مما تصبح هناك إمكانية للخطأ وخسائر في المحاصيل. والخبر السار هو أن العديد من المزارعين والشركات من الشرق إلى الغرب يستخدمون التقنيات المتطورة وخصوصاً فهم واستخدام البيانات لرفع فعالية العمليات الزراعية وزيادة الربحية، ولكن لا يزال البعض الآخر خلف الركب.
ويعتبر الذكاء الاصطناعي وخوارزميات التعلم الآلي أو ما يسمى بال Machine Learning أحد الابتكارات التي أحدثت ثورة في القطاع الزراعي، والتي يمكن أن تساهم بشكل كبير في تحسين الإنتاج والأمن الغذائي العالمي. وتملك هذه التكنولوجيات القدرة على تحليل كميات هائلة من البيانات المقدمة من أصول متنوعة وبالتالي تعزز عمليات صنع القرار في المجالات الزراعية التي يواجه فيها المزارعين من صعوبات. كما أحدثت الحلول التي يوفرها الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي ثورة في الممارسات الزراعية وفقا لأحدث الأدبيات والممارسات الحديثة مثل: أولاً، إدارة المحاصيل، بما في ذلك التطبيقات المتعلقة بالتنبؤ بنمو المحاصيل، والكشف عن الأمراض والأعشاب الضارة، والكشف عن جودة المحاصيل، والتعرف على أنواع المحاصيل. ثانياً، إدارة الثروة الحيوانية، بما في ذلك التطبيقات المتعلقة برعاية المواشي وكشف الأمراض والإنتاج الحيواني. ثالثاً، إدارة المياه، وأخيراً إدارة التربة (Liakos, et al., 2018). وعلى الرغم من تواضع القيمة السوقية للذكاء الاصطناعي في القطاع الزراعي والذي بلغ في عام 2022م حوالي 1.7 مليار دولار أمريكي، إلا انه من المتوقع أن يزيد معدل نموه السنوي بأكثر من 20 بالمائة بين عامي 2023م و2032م (Gminsights, 2023). ويمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تفيد المزارعين في جميع نواحي المهام الزراعية.
وتنقسم المهام الزراعية التي يقوم بها المزارعين إلى ثلاثة مراحل بشكل عام: المرحلة الأولى هي مهام ما قبل الحصاد كاختيار المحصول المراد زراعته وحصاده، وإعداد الأرض لزراعة المحصول، ووضع البثور، والقيام بأعمال الري ورش الأسمدة وأعمال الصيانة الأخرى. ويعد التركيز على مهام ما قبل الحصاد أمرا ضروريا لتقليل الخسائر الإجمالية في الإنتاج. هنا يتم النظر في عدد قليل من المكونات الهامة في مرحلة ما قبل الحصاد وكيف يتم استخدام الشبكات العصبية والتعلم الآلي لالتقاط المعلمات (parameters) من كل مكون كالتربة والبذور والآفات التي قد تصيب المحاصيل. أما المرحلة الثانية فهي مهام الحصاد كاكتشاف أحجام المحصول وجودته ومرحلة نضجه وتصنيفه واكتشاف الفرص والطلب في السوق. وبعد أن يكون المحصول جاهراً، فإن مرحلة الحصاد تعتبر من أهم المراحل. فيقوم المزارعين بالتركيز على المعلمات المهمة في هذه المرحلة مثل حجم المحصول، ولونه، وطعمه، وجودته، ومرحلة نضجه، وتصنيف المحصول والحصاد. وترتبط دقة إكتشاف الحصاد وتصنيفه ارتباطا مباشرا بزيادة الربحية. أما المرحلة الثالثة فهي مهام ما بعد الحصاد. والجدير بالذكر أن الإهمال في مرحلة ما بعد الحصاد قد يؤدي إلى إفساد جميع الجهود والتسبب في خسائر فادحة. فالمهام التي يمكن مراعاتها في هذه المرحلة هي معرفة ودقة البيانات حول العمر الافتراضي للمحاصيل. وتعتمد جودة المحاصيل على معاييرها مثل الشكل والحجم والملمس واللون والعيوب (Meshram, et al., 2021). كما أن كل دولة لديها قواعدها ولوائحها القياسية الخاصة لتصنيف الثمار.. لهذا، فهناك إمكانيات هائلة من خلال جمع البيانات واستخدام تقنية التعلم الآلي لحل المشاكل المعقدة في الزراعة ومساعدة المزارعين لتقليل خسائر المحاصيل ورفع كفاءة الإنتاجية وزيادة الأرباح.
وأحد أهم جوانب الزراعة الدقيقة التي يوفرها حلول الذكاء الاصطناعي هو التنبؤ بنمو المحاصيل، وهو أمر شديد الأهمية لرسم خرائط المحاصيل وإدارتها لتحسين الإنتاجية. فعلى سبيل المثال، تم استخدام تقنيات التعلم الآلي لتحليل السلع المختلفة مثل محصول البن على فروع الأشجار. يقسم نموذج التعلم الآلي محاصيل البن إلى ثلاث مجموعات: محاصيل البن الناضجة، وتلك التي لم تنضج، وتلك التي لا تزال في مرحلة النضج. ويتم تقدير وزن ومعدل نضج محاصيل البن باستخدام تقنيات التعلم الآلي كأجهزة الاستشعار. ويعتبر الهدف الرئيسي من استخدام أنظمة التعلم الآلي في إنتاج البن هو مساعدة المزارعين للتفريق بينها بين المنتجات عالية أو عادية أو منخفضة الجودة لرفع مستوى الجودة. كما يعتبر محصول الكرز مثال آخر تم استخدام التعلم الآلي فيه، وتقوم أجهرة الاستشعار بالقيام بالاهتزاز الآلي أثناء الحصاد عن طريق نظام استشعار الرؤية. حتى عندما يكون الرؤية غير واضحة لدى المزارعين للتحديد بين الكرز الناضج عن المحصول غير الناضج، فإن مستشعر الرؤية يجعل محصول الكرز المغطى بأوراق أغصن الأشجار مرئية للمزارعين. وكان الهدف الرئيسي من استخدام تقنيات التعلم الآلي هذه هو تقليل مقدار الوقت والعمل اللازمين للحصاد اليدوي. وأظهرت العديد من الدراسات الأخرى حول مجموعة من المحاصيل المختلفة، بما في ذلك الأرز والقمح والطماطم والعشب والمحاصيل الأخرى (Liakos, et al., 2018).
وأما فيما يتعلق بالآفات التي تؤثر على المحاصيل، فهي تعتبر مصدر قلق آخر للمزارعين. واحدة من أكثر الممارسات استخداما وشيوعا في مكافحة الآفات والأمراض هي الرش المبيدات على منطقة المحاصيل. هذه الممارسة، على الرغم من فعاليتها، فإنها تعتبر ذات تكلفة مالية عالية وتأثير بيئي كبير لعدم استدامتها. ومن أحد التأثيرات السلبية هي انتقال بقايا المبيدات إلى منتجات المحاصيل وتلوث التربة والمياه الجوفية والتأثير على الحياة البرية والنظم البيئية، إلخ، وتقدم تكنولوجية الذكاء الاصطناعي كالتعلم الآلي بعض الحلول لمعالجة هذه المشكلة. حيث يتم استخدام التعلم الآلي وأدوات الاستشعار لاستهداف المحاصيل المصابة من حيث الزمان والمكان ورشها في الوقت المناسب (انظر إلى المرجع السابق) مما يساهم في رفع جودة وسلامة المحاصيل. وهناك طرق عديدة تم اكتشافها للقضاء على الآفات التي تصيب المحاصيل دون اللجوء إلى عمليات الرش الجائرة غير المستدامة.
ومن الجدير بالذكر أن قطاع الزراعة يستهلك 85٪ من موارد المياه العذبة المتاحة في جميع أنحاء العالم. وهذه النسبة تتزايد بسرعة مع النمو السكاني ومع زيادة الطلب على الغذاء، مما يزيد الحاجة إلى التوصل إلى تكنولوجيات أكثر كفاءة من أجل ضمان الاستخدام السليم للموارد المائية وخصوصاً في عمليات الري. و يمكن الوصول إلى ذلك عن طريق استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تركيب المستشعرات والتي لها دورا مهما في التنفيذ الفعال للري عبر الروبوتات. ويمكن إستخدام جهاز استشعار واحد للتحكم في ري مناطق متعددة في الحقول، ويمكن أيضا تعيين أجهزة استشعار متعددة لري المناطق الفردية، مما يسمح بتحسين كفاءة الري والحد من هدر المياه (Talaviya, et al., 2020). وكان الهدف من تطوير تقنية الري الذكي لزيادة الإنتاج دون إشراك عدد كبير من القوى العاملة للكشف عن مستوى الماء ودرجة حرارة التربة ومحتوى المغذيات.
يعتبر سلاسل التوريد لقطاع الزراعة والأغذية الأعقد على الإطلاق في مراحل الإنتاج والتوزيع والاستهلاك. ولكن هناك إمكانيات هائلة لتقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي أن تساهم في تحسين عمليات الإنتاج من خلال مراقبة صحة المحاصيل والتنبؤ بأنماط الطقس وتحسين جداول الري والتسميد عبر مختلف جوانب الزراعة. وتساهم هذه التقنيات بتوفير المعرفة والتوجيه بشأن المهام الحاسمة مثل تخطيط المحاصيل، وتحديد أوقات الزراعة المثلى، وإدارة مستويات المياه والمغذيات، والكشف عن الآفات، وضمان الممارسات الفعالة لمراحل الحصاد وما بعد الحصاد، وتصنيف المحاصيل، وحتى المساهمة في تسويق الأغذية وتوزيع المنتجات وتعزيز سلامتها للمستهلكين. كما أن هذه التقنيات تستخدم في أنواع كثيرة من الزراعة منها الزراعة الأفقية والدفيئة.
عقبات كبيرة رغم الحلول الفعالة
وعلى الرغم من أن إمكانات هذه التكنولوجيا كبيرة لتعزيز الإنتاج والأمن الغذائي، إلا أن هناك عقبات كبيرة في البلدان التي يزيد فيها تهديدات الأمن الغذائي. وتتمثل هذه العقبات في عدم وجود بيئة تجارية مواتية للأعمال التجارية وسوق ديناميكي ناضج خصوصاً في القطاع الزراعي، بالإضافة لعدم إشراك أصحاب المصلحة في وضع استراتيجيات وتطوير السياسات المتعلقة بالغذاء والبيئة، والافتقار إلى وجود قاعدة بيانات وانخفاض دعم جهود البحث والتطوير، وعدم وجود منظمات تساهم في نشر الوعي وتدريب المزارعين في البلدان التي تشتد فيها الحاجة إلى مثل هذه الإصلاحات. كما أن هناك تحديات خاصة بما يتعلق باستخدام تكنولوجية الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وأهم هذه التحديات هي الآتي:
التحدي الأول هو تكلفة الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي. في حين أن الذكاء الاصطناعي يوفر العديد من الفوائد المحتملة من حيث إدارة المحاصيل ورفع كفاءة الإنتاج على المدى المتوسط والبعيد، إلا أن الاستثمار الأولي في هذه التكنولوجية يمكن أن يكون كبيرا إلى حد ما. لذلك، فإن التحديات المالية التي تواجهها العديد من المزارع والأعمال التجارية الزراعية تجعل تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي بعيدة المنال، لا سيما بالنسبة لصغار المزارعين وأولئك الذين يعملون في المناطق الريفية. ومع ذلك، فإن حجم سوق الذكاء الاصطناعي العالمي في مجال الزراعة يقدر بـ 1.37 مليار دولار أمريكي في عام 2022م ومن المتوقع أن يتجاوز حوالي 11.13 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2032م، بمعدل نمو سنوي بنحو 23.3 بالمئة من عام 2023م إلى عام 2032م (Precedenceresearch, 2023)، علماً أن الحصة السوقية في لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأدنى لا تتجاوز ال5 بالمئة، وتعتبر الحصة السوقية لشمال أمريكا الأكبر بنحو 39 بالمئة، مما يفتح الباب أمام الاستثمار في هذه التكنولوجيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لكون استخدامها والاستثمار بها متواضع مقارنة بباقي بلدان العالم، خصوصاً انه سوف تشتد الحاجة لمثل هذه التكنولوجيا في المستقبل. ويعتقد أن تنخفض تكاليف تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجالات الزراعية بشكل كبير مع مرور الوقت لأن هذه التقنيات سوف تكون متوفرة وأقل تكلفة ومستخدمة على نطاق واسع في المستقبل.
التحدي الثاني هو مقاومة التغيير من قبل المزارعين والشركات التجارية. يقاوم الناس بشكل عام التغيير والتكيف مع التقنيات الجديدة، وهو جانب آخر يمثل تحديا لتطبيق الذكاء الاصطناعي في القطاع الزراعي. وأصبح العائق أمام تقدم الممارسات الزراعية وجني المزيد من الأرباح في هذا القطاع هو عدم تبني الابتكار في الزراعة. لذلك، فإنه من الضروري للمزارعين والشركات التجارية فهم أن الذكاء الاصطناعي يمثل تحسن للتقدم التكنولوجي السابق في تحليل البيانات ومعالجتها. وتكون معالجة هذه المشكلة ممكنة عن طريق الشراكات بين أصحاب المصلحة كالمزارعين والشركات التجارية والجامعات ومراكز الفكر والمنظمات غير الحكومية (المنظمات غير الحكومية) لتعزيز معارف وقدرات العاملين في القطاع الزراعي. ويمكن تطوير برامج تدريبية شاملة تلبي المتطلبات المختلفة للمزارعين والباحثين وأصحاب المصلحة الآخرين.
التحدي الثالث هو أن حلول الذكاء الاصطناعي لا تستهدف على وجه التحديد المتطلبات المناخية الخاصة للدول والمناطق الزراعية. تواجه البلدان ذات الدخل المنخفض عقبات هائلة عند محاولة تطبيق التكنولوجيا المتطورة واستخدامها. وهناك حاجة متزايدة لتصميم حلول الذكاء الاصطناعي للمتطلبات والموارد الخاصة لهذه المناطق بالاضافة إلى حل المشكلات الخاصة التي تواجهها، وهذا يحتاج إلى جمع المزيد من البيانات واستخدامها في هذه التقنيات عبر الوقت. فقد يؤدي توفير هذه الحلول الخاصة إلى تسهيل استخدام الذكاء الاصطناعي بنجاح مع مراعاة قيود الموارد المحدودة والبنية التحتية والمعرفة السائدة في العديد من المناطق. ولضمان القبول الواسع والتنفيذ الفعال، من المهم تحديد الحلول التي تلبي المتطلبات البيئية والاقتصادية الخاصة لتلك المناطق.
التحدي الرابع هو الافتقار إلى البنية التحتية. لكي يتم تنفيذ تقنيات الذكاء الاصطناعي بنجاح، فإن البنية التحتية والوصول إلى البيانات أمران ضروريان. وللمساهمة في الوصول الأسرع إلى البنية التحتية والبيانات المطلوبة للمعلمات الزراعية، يتوجب تدريب نماذج وخوارزميات الذكاء الاصطناعي في المناطق الزراعية. وتعد البيانات ضرورية حيث تزداد قدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي على التعلم وتقديم تنبؤات أو خيارات دقيقة مع كمية ونوعية البيانات المتاحة. بالنسبة للعديد من المزارعين، يمكن أن يمثل الحصول على البيانات الموثوقة تحديا كبيرا حيث يمكن أن تكون هناك قيود على نوع البيانات المتاحة. بسبب ضعف شبكات الانترنت أو قواعد البيانات. وللتغلب على هذا التحدي، من المهم توصيل خدمة الانترنت في الأماكن البعيدة، وتعزيز مبادرات البيانات المفتوحة، وضمان خصوصية البيانات.
والتحدي الخامس إقتصادي بطبيعته. حيث لا يزال سعر الفائدة مرتفعا جدا في معظم البلدان كوسيلة للبنوك المركزية لمكافحة تضخم الأسعار. يمكن أن تؤدي الزيادة في أسعار الفائدة إلى انخفاض في الأرباح المتوقعة بسبب النفقات المتزايدة المرتبطة بالاقتراض وعملية التصنيع، وقد تأثر قطاع الزراعة بهذه السياسات في جميع أنحاء العالم. وبالتالي، يمكن للمؤسسات الحكومية وغير الحكومية تقديم المنح والإعانات والقروض منخفضة الفائدة للشركات الزراعية والمزارعين. ويجب تمكين المبادرات التي تعزز استخدام الذكاء الاصطناعي في الزراعة من مصادر مختلفة، بما في ذلك الحكومات والمنظمات الدولية وكيانات القطاع الخاص. كما يمكن لهذه المؤسسات دعم الابتكار ومشاريع البحث والتطوير في قطاع الزراعة والأغذية. علماً بأن تمويل أنشطة الذكاء الاصطناعي في الزراعة قد بدأت بالفعل في مختلف دول العالم، وتقوم منظمة الأغذية والزراعة وغيرها من المنظمات المماثلة دعم المشاريع ومبادرات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات (Aiforgood, 2023). كما تعتبر هذه المنصة مجتمعية تربط المبتكرين مع الذين يحتاجون حلول الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات الحيوية.
الختام
أصبح من الملح أكثر من أي وقت مضى أن تتعاون الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأكاديمية والشركات الخاصة من أجل معالجة القضايا المعقدة وتحقيق الأهداف المشتركة المتعلقة بالتنمية المستدامة ورفع مستوى التأهب لزيادة الإنتاج والأمن الغذائي. وأصبح التعاون بين أصحاب المصلحة أداة قوية لتشجيع مشاركة الموارد وتبادل المهارات وتبادل المعلومات بين هذه المجموعات. ويمكن أن تستخدم هذه الأشياء لمعالجة المشاكل مثل الحد من الفقر، والتخفيف من تغير المناخ، والعقبات التي تواجه قطاع الزراعة والأغذية. يتطلب تطبيق تقنية الذكاء الاصطناعي جهدا جماعيا، حيث أن هناك حاجة للتعاون بين المتخصصون والمبتكرون من مختلف المجالات لمشاركة الموارد والمعلومات. وتكمن قوة التعاون في قدرتها على توحيد وجهات النظر والربط بين المهارات المختلفة.
وتتمتع الابتكارات في تقنيات الذكاء الاصطناعي بالقدرة على تغيير الممارسات الزراعية ومواجهة التحديات التي يفرضها إرتفاع عدد سكان العالم وتغير المناخ والموارد المحدودة. ويمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي تحسين الإنتاج الزراعي وتقليل الخسائر وتحسين إدارة سلسلة التوريد وتحسين النتائج الغذائية باستخدام التعلم الآلي والتحليلات التنبؤية وصنع القرار القائم على البيانات. ،ويوفر الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في الزراعة العديد من الحلول لزيادة إنتاج الغذاء مثل المراقبة الدقيقة للمحاصيل وإدارتها، مما يسمح بزيادة إنتاجية المحاصيل وكفاءة الموارد وتعزيز إدارتها. كما توفر الطائرات بدون طيار وأجهزة الاستشعار والتصوير بالأقمار الصناعية وغيرها من التقنيات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي مراقبة الوقت الفعلي لنمو المحاصيل وتسمح بالتشخيص المبكر للأمراض والآفات. ويتيح ذلك أيضاً تحليل كميات هائلة من البيانات وتزويد المزارعين برؤى قابلة للتنفيذ، مما يسمح لهم باتخاذ خيارات ذكية وزيادة الإنتاج الزراعي إلى أقصى حد وكذلك تحسين كفاءة سلسلة الإمدادات الغذائية، من الإنتاج إلى التوزيع والاستهلاك. بالإضافة إلى ذلك يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي التنبؤ بطلب السوق وتحسين طرق التوزيع والقضاء على خسائر ما بعد الحصاد. وهذا يسمح بتعزيز تنسيق الموارد وتوزيعها، مما يضمن وصول الغذاء إلى من هم في أمس الحاجة إليه.
وعلى الرغم من الإمكانات الهائلة لتقنيات الذكاء الاصطناعي ومساهمتها في تعزيز إستدامة الإنتاج والأمن الغذائي ، إلا أن مشاركة أصحاب المصلحة في فهم التحديات وتطوير السياسات ودعم نشاطات البحث والتطوير وتوفير قاعدة البيانات ضرورية لتمكين تقنيات الذكاء الاصطناعي في حل المشكلات. وينطبق الشيء نفسه على القضايا المتعلقة بالزراعة وبناء أنظمة غذائية أكثر كفاءة تلبي احتياجات الأجيال الحالية والمقبلة.
المصدر: مجلة كانو
علي فقيه، أستاذ مشارك