إن التغيرات السريعة التي نشهدها اليوم في قطاع التكنولوجيا والابتكار والمعرفة تعد تحولاً كبيراً على المستوى الإنساني. فلم تعرف حضارة حسب ما يظهر لدى أهل التاريخ هذا النوع من التقدم المعرفي والتكنولوجي، وقد يكون عَجْز البعض عن استيعاب حجم هذا التقدم راجعاً إلى أنهم عاشوا في أكنافه منذ نعومة أظفارهم. فلو تأملنا الكهرباء واستخداماتها، وافترضنا أنها لم تكتشف؟ فكيف ستكون حياتنا بلا مكيفيات مثلاً؟ إن هذا الأمر ينطبق على العديد من التطبيقات المعاصرة، وبالأخص في مجالات الاتصالات والمواصلات، والتي ظهرت بشكل متعاقب بعد ما يسمى بالثورة الصناعية بالمملكة المتحدة.

وفي هذا السياق يظهر طرح الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت، والذي قسم مراحل التطور الإنساني إلى ثلاث مراحل وصولاً أخيراً إلى المرحلة الصناعية. إلا أن هذه المرحلة قد تطورت بشكل معقد، وأصبح التداخل بين العلوم فيها هو الأمر السائد في تطبيقاتها، وذلك بهدف ضمان رفاهية الإنسان بشكل أساس. فلنتأمل على سبيل المثال ما يسمى بثورة الاتصالات والمعلومات، وهي ما جعلت الإنسان المعاصر مرتبطاً بشكل وثيق بالتكنولوجيا، والتي يرى الكون من خلالها بشكل متصل ولحظي. إن لهذا العصر رونقاً مختلفاً ونمطاً فريداً، وهذا ما يشير إليه أستاذي العزيز الدكتور محمد الصندوق في ورقته المنشورة تحت عنوان «هل التكنولوجيا طريقة جديدة للتفكير؟»، والتي اقترح فيها إضافة مرحلة أخرى إلى مراحل أوغست كونت، وهي مرحلة التكنولوجيا. وذلك لأنها وإن كانت مبنية على المرحلة الصناعية، إلا أن سماتها وتفاعلاتها أكثر تعقيداً، وهي تشمل جوانب متعددة ومتداخلة من الحياة البشرية.

قد يختلف البعض مع الطرح السابق من حيث البناء الفلسفي، إلا أن الجميع قد يكون متفقاً إلى حد كبير إلى أن عصرنا الحالي أكثر تقدماً وتعقيداً مما سبقه من العصور البشرية بحسب علمنا القاصر. ولهذا فإن مقدار الازدهار العلمي الذي نشهده يعد استثنائياً بكل ما تحمله الكلمة من معاني، فإننا نرى ظهور العديد من التطبيقات الاستثنائية كبرنامج الشات جي بي تي ChatGPT، ومؤخراً نظارة الأبل الذكية. وكما أن ما يحدث غير مسبوق ومذهل، فإن إشكالياته كذلك أشد وأكثر تعقيداً. ولعل من أكثرها خطورها أزمة المناخ، والتي تفاقمت بشكل مباشر مع ظهور الثورة الصناعية.

وبعيداً عن الدعاوي المنادية بإيقاف النمو التكنولوجي بدعوى أنها السبب الرئيس لأزمة المناخ، فإننا بحاجة في الوقت الحالي لمعالجة المشكلة، لا أن نبكي على أطلالها. فما حققته البشرية من ازدهار تقني هو تطور غير مسبوق ينبغي المحافظة عليه كمكسب حضاري، وترشيده هو الأولى لخدمة الأجيال الحالية والقادمة. وقد يكون أحد الحلول المهمة في معالجة أزمة المناخ هو عن طريق تسخير التكنولوجيا المتقدمة ذاتها لحل هذه المعضلة. وهذا ما نراه اليوم تحت ما يسمى بالحلول القائمة على التكنولوجيا «Technology-based solutions» كأحد الأدوات الأساسية للوصول إلى الحياد الصفري الكربوني، والتي تشمل تقنيات مثل احتجاز الكربون وتخزينه. وهناك أيضاً حلول علمية أكثر جرأة، وقد تكون قابلة للتطبيق في المستقبل القريب. فعلى سبيل المثال فقد أوصت الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم بتخصيص ما يصل إلى 200 مليون دولار أمريكي على مدى السنوات الخمس المقبلة لاستكشاف كيفية نشر ما يسمى بالهندسة الجيولوجية الشمسية أو ما يعرف بهندسة «المناخ»، والتي تهدف إلى دراسة تبريد الكرة الأرضية بشكل اصطناعي باستخدام تقنية استمطار السحب أو رش المياه إلى غيوم القطب الشمالي بغية حرف أشعة الشمس عنها من أجل الحفاظ على الجليد. ولاشك أن هذا النهج في مواجهة التحديات البيئية بحاجة إلى تبني سياسات دولية أكثر صرامة، بالإضافة إلى خلق فرص اقتصادية جاذبة ومحفزة للبحث العلمي، وذلك لفتح المزيد من المجال لمثل هذه التطبيقات الرائدة.

المصدر: صحيفة الوطن

الدكتور عبدالله العباسي، مدير برنامج الطاقة والبيئة